وهبي يكتب: مشروع قانون المسطرة المدنية بين المشروعية الدستورية والنسق القانوني
عبد اللطيف وهبي وزير العدل
أثار مشروع المسطرة المدنية نقاشا يبدو طبيعيا، بالنظر لمكانتها في الترسانة القانونية وحتى لضبط بعض اختياراتها، غير أن الموضوع عصي على النقاش، إذ هيمنت على تفاصيله لغة الشعارات أكثر من لغة التحليل القانوني الرصين، فالنص بطبيعته جامد ومعقد، يحتمل أوجه متعددة، وقد يبقى قزميا في دلالته، وأعتقد أنه على القانوني أن يتعامل مع النص بكثير من الدهاء، لأنه رغم انفرادية الفصل القانوني كما يبدو، لا يمكن أن ينفصل عن المنطق العام وتقاطع نصوص المسطرة المدنية، لذلك فكثير من الآراء كانت مجرد شعارات، مما يجعلني من موقعي السياسي عاجز على الرد عليها رغبة مني في احترام النص والتعامل معه بصدق وسمو.
والحقيقة أن المتتبع لهذا النقاش حول مشروع المسطرة المدنية، يتواجه مع عدة أحكام مسبقة وجاهزة بشكل أولي، قبل البحث عن مبررات لها من خلال نظرة انتقائية إلى فصولها، وانطلاقا من هذه الإشارات فإن القول بأن مشروع قانون المسطرة المدنية يتضمن مجموعة من المقتضيات المخالفة للدستور وللمعايير الدولية لحقوق الإنسان، كان منهجيا يستلزم استعراض أوجه هذه المخالفة بشكل علمي رصين، في إطار الترافع الفكري والقانوني المنتج، الذي من شأنه أن يشكل إبداعا اقتراحيا وجديا، لتفادي كل القصور الذي يمكن أن يعتري النص القانوني، ويسهم في تجويده وتحقيق غاياته النبيلة المتمثلة في ضمان حماية حقوق المتقاضين.
إن قراءة هذه الادعاءات وليس الانتقادات، يظهر بأنها لا تعدو أن تكون مجرد عموميات لا تقدم أي تقييم موضوعي شامل لمشروع القانون، ولما جاء به من مقتضيات هامة، تستجيب بشكل كبير لتطلعات المجتمع في مجال العدالة، وانتظاراته لإقرار قانون إجرائي مدني جديد، قادر على مواكبة التحولات التي يشهدها المجتمع، في إطار تنزيل مقتضيات الدستور، وتفعيل الخطب والرسائل الملكية السامية المتعلقة بالعدالة، ومختلف الوثائق الوطنية ذات الصلة، وكذا ملاءمة التشريع الوطني مع الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف المملكة المغربية.
وبناء عليه، والتزاما بما يقتضيه هذا النقاش القانوني، من ضرورة خضوعه لضوابط علمية تقتضي الوقوف على كل المزاعم المتعلقة بمخالفة مشروع القانون لمقتضيات الدستور ومعايير حقوق الإنسان، فقد ارتأينا أن يكون التفاعل مع هذه الادعاءات مبني على تحليل المقتضيات الدستورية المتعلقة بها، من جهة أولى، (المحور الأول)، وبسط بعض المعايير الدولية لحقوق الانسان ذات الصلة بالعدالة من جهة أخرى، (المحور الثاني)، مع تخصيص (المحور الثالث)، للتفاعل مع الانتقادات الأخرى الموجهة لمشروع قانون المسطرة المدنية، و التي تقتضي من أصحابها إعادة قراءة مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية قراءة متأنية.
المحور الأول: الادعاءات المتعلقة بمخالفة بعض مقتضيات مشروع القانون للدستور
من خلال الاطلاع على بعض الآراء المعبر عنها بهذا الخصوص، يلاحظ أنه تم عرض مجموعة من المقتضيات المضمنة بمشروع قانون المسطرة المدنية، والحكم عليها بكونها مخالفة للمبادئ والقواعد الدستورية، من قبيل ما يلي:
1- الادعاء بأن المادة 383 تقر التمييز بين المواطن والإدارة العمومية
بالرجوع إلى مقتضيات المادة 383 من المشروع، المحددة للحالات التي يوقف فيها الطعن بالنقض التنفيذ، يتضح أنها لا تقر أي نوع من التمييز بين المواطن والإدارة العمومية على اعتبار أنها حددت عدد كبير من الحالات التي يوقف فيها الطعن بالنقض التنفيذ في قضايا تتعلق بالأشخاص الذاتيين، مثل قضايا الأحوال الشخصية والزور الفرعي، والتحفيظ العقاري، وتذييل المقررات الصادرة عن المحاكم بالصيغة التنفيذية، وغيرها من الحالات الأخرى المذكورة، وبالتالي فإن القول بمخالفة مقتضيات هذه المادة للفصل 6 من الدستور، هو ادعاء مجانب للصواب بالنظر إلى أنها لم تقم أي استثناء على أساس التمييز بين الأشخاص الذاتيين، وأشخاص القانون العام، إذ أن مفهوم التمييز وفق الدستور والمعايير الدولية ينصرف إلى أن التمتع بالحق لا يكون إلا على أساس تمييزي واضح كاللون أو الجنس، أو الدين، أو الأصل القومي…، وهو الأمر الذي لم تقره هذه المادة. علما أن الفصل 6 من الدستور يعتبر أن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، وأعتقد أن قانون المسطرة المدنية هو قانون، وأن المساواة أمامه يعود إلى كليهما، أي المواطن والمؤسسات العمومية، هذا إذا أدركنا أن المبالغ المطلوبة أو القرارات موضوع النزاع لا تهم فقط الشخص المعني، ولكن تهم كذلك السير العادي للإدارة بما فيها إدارة المال العام، هذا الأخير الذي هو ملك للجميع، والإدارة تقوم فقط بتدبيره من خلال قوانين المالية.
2- الادعاء بأن المادة 30 تقر تمييزا بين المواطنين
في إطار السعي إلى ترشيد طرق الطعن وعقلنتها، عمد مشروع قانون المسطرة المدنية إلى إدخال تعديلات هامة تهم طرق الطعن، من أجل تقليص حالاته، وضمان الولوج الفعال إلى العدالة، وذلك بالنظر إلى نوع القضية ومتطلبات العدالة، وفق اعتبارات خاصة يقدرها المشرع حسب اختياره التشريعي، وهكذا عمل المشروع على الرفع من سقف الاختصاص القيمي للمحاكم الابتدائية للبت ابتدائيا وانتهائيا، عما كان عليه في القانون الحالي إلى أربعين ألف (40.000) درهم، وابتدائيا مع حفظ حق الاستئناف في جميع الطلبات التي تتجاوز أربعين ألف (40.000) درهم، وهو اختيار مبني على اعتبارات موضوعية لا علاقة لها بالتمييز بين المتقاضين سواء كانوا ذاتين أو اعتباريين، وفق ما بيناه أعلاه. علما أن الحق في التقاضي يقف عند حد احترام الحقوق الأخرى للمواطنين، وعلما كذلك أن للمدعى عليه حق الطعن في القرارات الصادرة في قضايا أقل من 40.000 درهم، والتي يتم الطعن فيها من خلال التعرض أمام السيد رئيس المحكمة لمراقبة مدى احترام القانون، وبذلك يكون المشروع قد كرس مبدأ التقاضي على درجتين من خلال مقتضيات المادة 32 منه التي سمحت للطرف المتضرر من الحكم الصادر ابتدائيا وانتهائيا في النزاعات التي لا تتجاوز قيمتها 40000 درهم طلب اللإلغاء أمام رئيس المحكمة الابتدائية المختصة، وحدد أسباب هذا الطعن من قبيل عدم احترام القاضي مصدر الحكم لاختصاصه القيمي أو النوعي، أو في حالة عدم إجرائه للصلح بين الأطراف، أو عدم تحققه المسبق من هوية الأطراف، أو في حالة بثه في أكثر مما طلب منه، أو إغفاله لإحدى الطلبات، وغيرها من الأسباب الواردة في المادة أعلاه، وبذلك يكون المشروع قد حافظ على حقوق الأطراف وضمن حقهم في الدفاع حتى بالنسبة للنزاعات التي قد تكون قيمتها أقل من 40000 درهم مكرسا بذلك النجاعة القضائية المنشودة.
وفي الجهة المقابلة أي المدعى فإن له كذلك حقوق، هذه الأخيرة إذا كانت ثابتة بين يديه فبأي حق سنثقل ذمته بمصاريف وإجراءات زمنية قيمتها أكبر من الدين الذي يطالب به؟ وهل هذا لن يكون مدعاة للتخلي عن الدين مادامت ستكلفه مصاريف أكثر من الدين نفسه، كمصاريف المحامي، مصاريف التنقل، مصاريف الإجراءات وغيرها؟ وكذلك لما يشكله العنصر الزمني من ثقل نفسي وعبئ اجتماعي.
إن الحق في التقاضي يصبح عالة على نفسه عندما يتم استعمال هذا الحق للتعسف على الغير، وهذا مخالف لمفهوم الإنصاف، ومما ينبغي الإشارة كذلك إليه أن هناك من يطالب بإلزامية المحامي في هذا النوع من القضايا، علما أن هذه القضايا لا تحتاج إلى نقاش قانوني كبير ولكن إلى نقاش واقعي، إضافة إلى ذلك أن المحاماة كمهنة حرة ليس في طبيعتها فقط، بل هي حرة ومستقلة عن السلطة واتجاه المواطن الذي هو الأصل في الدعوى والذي يجب احترام اختياره لخدمات المحامي في الدعوى أو الاستغناء عنه، ويبقى الأصل أن المواطن هو صاحب الحق وصاحب الدعوى، وهو الوحيد الذي له القرار للاستعانة بالمحامي أو بغيره.
3- الادعاء المتعلق بخرق القيود الواردة في الفصول 6، 118، 120، 121 من الدستور.
إن القراءة المتأنية لمقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية، تبين أنه عمل على تكريس وتنزيل كل المبادئ والقواعد الدستورية التي تكفل حق جميع الأشخاص في التقاضي والدفاع عن حقوقهم، ومصالحهم المشروعة التي يحميها القانون على قدم المساواة، كما كرس الحق في الطعن في كل قرار اتخذ في المجال الإداري أمام القضاء المختص، والحق في الدفاع وفي محاكمة عادلة، وفي الحصول على حكم يصدر داخل أجل معقول، وفي مجانية التقاضي لمن لا يتوفر على موارد كافية للتقاضي، انسجاما مع ما نصت عليه الفصول، 6، 118، 120، 121، من الدستور.
وإذا كان الفصل 120 من الدستور ينص على أن “لكل شخص الحق في محاكمة عادلة وفي حكم يصدر داخل أجل معقول”، فإن ما نصت عليه المادة 5 من مشروع قانون المسطرة المدنية لا يتعارض مع هذا المقتضى الدستوري، بخلاف ما يدعيه البعض، على اعتبار أن ضمان تمتع كل شخص بحقه في حكم يصدر داخل أجل معقول، يرتب واجبا قانونيا على القاضي في ضرورة إصدار حكمه داخل أجل معقول، باعتباره المسؤول على مباشرة و مراقبة كل الإجراءات القضائية للدعوى التي يتولى البت فيها، واتخاذ كل التدابير القانونية لتجنب الهدر الإجرائي واختصار الزمن القضائي، خاصة أن البت في أجل معقول يعتبر حقا للمواطن، وهو ما ينسجم مع الصلاحيات الدستورية للقاضي في تولي حماية حقوق الأشخاص والجماعات، وحرياتهم، وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون، تطبيقا للفصل 117 من الدستور.
إن مشروع قانون المسطرة الجديد يتلاءم مع فصول الدستور المذكورة، وغيرها من المقتضيات الدستورية ذات الصلة، من خلال التنصيص في عدد من مقتضياته على ضمان المساواة بين جميع المواطنين في الولوج للعدالة وتحديد أجل معقول للبت في القضايا، وممارسة الطعون داخل آجال تتناسب مع نوع القضايا…، ولم يتضمن أي مقتضى من شأنه المساس بالحقوق والمبادئ الدستورية التي تهدف إلى توفير شروط المحاكمة العادلة وضمان حماية حقوق المتقاضين على قدم المساواة، وعيا من المشرع بأهمية تنزيل الالتزامات التي يفرضها الدستور، لا سيما فيما يتعلق بالجوانب المرتبطة بضمان الحريات والحقوق، باعتبارها من الأحكام المتعلقة بالمكتسبات التي لا تقبل المراجعة الدستورية طبقا للفصل 175 من الدستور.
إن الادعاء بمخالفة النصوص الدستورية يوجب أن يتم استعراض المقتضيات المخالفة لصريح الدستور، وإظهار أوجه ذلك بناء على تحليل يقوم على إبراز أوجه هذه المخالفة بشكل علمي موضوعي، يمكن من بناء تصورات قانونية مقنعة قادرة على أن تكون حافزا للمشرع لتبنيها من أجل تفادي كل القصور الذي يمكن أن يعتري النص القانوني، ويسهم في تجويده وتحقيق الأهداف التي ينشدها كل غيور على هذا الوطن في ضمان حماية حقوق المواطنين والمتقاضين على قدم المساواة.
إن الحصول على الحق لا يرتبط فقط بصدور حكم عادل ولكن بمدى فوريته، لكون هذا المبدأ ليس نصا له مشروعيته فقط في المجال الجنائي، ولكن في المجال المدني كذلك، فتمطيط الزمن وتأخير الأحكام يقوم باغتيال الحق إما واقعا أو نفسيا، كما له انعكاس سلبي على مبدأ الإنصاف، فدور القاضي المدني هو حماية الحق وتمكين صاحبه منه في أقرب وقت، فإذا كان للمدعى عليه الحق في الدفاع عن نفسه فإن للمدعي باعتباره صاحب الحق أن يتمتع بحقه في أسرع وقت وبشكل سليم ضمانا للاستقرار الاجتماعي واستقرار الحقوق الذي يساهم في الحركية الاقتصادية وبتجاوز التعقيدات القانونية للاستمتاع بالحق.
4- الادعاء المتعلق بعدم إمكانية الطعن في القانون لمخالفته للدستور
بالرجوع إلى الفصل 133 من الدستور، يتضح أن تعليق إمكانية الطعن في أي قانون مخالف للدستور، على صدور القانون التنظيمي الذي يحدد شروط وإجراءات تطبيق هذا الفصل، أمر لا يستقيم، وذلك بالنظر إلى أن هذا الفصل يتحدث عن اختصاص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون الذي سيطبق على النزاع يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور.
وانطلاقا من ذلك، وحسما لكل النقاشات المتعلقة بمدى دستورية مشروع قانون المسطرة المدنية، والادعاءات المرتبطة بهيمنة الأغلبية، فإنه خلافا لبعض الادعاءات المتعلقة بعدم إمكانية اللجوء إلى المحكمة الدستورية من طرف أي حزب سياسي، فقد خول الفصل 132 من الدستور أيضا، لخمس أعضاء مجلس النواب، أو أربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين، الحق في إحالة القوانين العادية قبل إصدار الأمر بتنفيذها على المحكمة الدستورية لتبت في مطابقتها للدستور، دون الحاجة إلى انتظار صدور القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، وهي مكنة جاء بها الدستور، لتمكين المعارضة من عرض القوانين العادية على المحكمة الدستورية رغم عدم توفرها على الأغلبية.
إن الطعن بعدم الدستورية حصره المشرع الدستوري في الفصول 129 و130 و131 و132 وجعله بيد المحكمة الدستورية، وأن هذا الحصر استند على إنشاء المحكمة الدستورية ومنحها اختصاصا جديدا في إطار الفصل 133 من الدستور الذي منح للأطراف حق الطعن بعدم الدستورية أثناء سريان الدعوى، وهو اختيار إيجابي جدا لكونه يوحد التفسير الدستوري للنص القانوني من خلال مدى دستورية الفصول القانونية، ويمنح هذا الاختصاص لجهة فريدة، وإذا أفسحنا المجال للبت في عدم الدستورية لقضاة الموضوع فكيف سينسجم ذلك مع تلك الحصرية والانفرادية التي تملكها المحكمة الدستورية في مجال اختصاصها، والتي تعتبر قراراتها إلزامية ولها القوة التنفيذية وتبطل النص الذي وسمته بعدم الدستورية؟
المحور الثاني: الادعاءات المتعلقة بمخالفة بعض مقتضيات مشروع القانون لمبادئ لحقوق الانسان.
إن الاستناد إلى مبادئ حقوق الانسان في تقديم أي تصور أو نقد، يقتضي منهجيا التقيد بهذه المبادئ وفق التعريفات المقررة في الصكوك الدولية، التي تحدد بشكل مضبوط عددا من المفاهيم المتصلة بالعدالة، وحقوق الانسان عموما، كالمساواة، والتمييز، وحق الدفاع، وصدور الأحكام داخل أجل معقول، والمساعدة القضائية، ومجانية التقاضي…، وغيرها من المبادئ المستقر عليها دوليا، من خلال الإعلانات والاتفاقيات الدولية، والتوصيات، والتعليقات العامة، وكذا القرارات الصادر عن أجهزة الأمم المتحدة وآلياتها المعنية، وبالتالي فإن الاحتجاج بعدم احترام هذه الحقوق والمبادئ، لا يمكن أن يكون خارج ما هو مقرر في هذه الوثائق التي يكتسي الكثير منها طابع الإلزام، باعتبارها الإطار المعياري الدولي المتوافق عليه من طرف المجتمع الدولي.
وبناء على هذا المعطى، فإن الآراء التي تدعي مخالفة مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية لمبادئ حقوق الانسان، لم تقدم أي قراءة علمية موضوعية لبسط الجوانب التي خالف فيها المشروع هذه المبادئ، وفق للإطار المعياري المذكور، وهو ما يفقدها أهميتها العلمية، ويدخلها في سياق المزايدات التي يغلب عليها الطابع السياسوي والمهني الفئوي الضيق، إذ أن الاحتجاج بخرق مبادئ مثل: التمييز والمساواة، والحق في الدفاع، ومجانية التقاضي، وغيرها…، لا يكون مقنعا إلا بتحديد مفهوم هذه المبادئ والحقوق، وتبيان أوجه مخالفتها في مقتضيات المشروع، وهو الأمر الذي لم يتحقق في كل هذه الكتابات و الآراء، تبعا لما بيناه أعلاه، إذ اقتصرت في مجملها على سرد العموميات التي لا ترقى إلى النقد البناء الذي يمكن أن يشكل أرضية متينة للتفاعل الجاد والحوار المثمر.
إن الحقوق لها دلالات كونية، والإشارة إليها قد تكون من الأشياء المعلومة، ولكن الإشارة إلى النصوص المخالفة لها وطبيعة هذه المخالفة وشكلها وإبراز ذلك هي التي ستمكننا من الحوار الصادق والبناء، فكم كنت أتمنى أن نحدد النصوص وطبيعة تضاربها مع النصوص والحقوق الدولية بدقة حتى يمكننا معالجة النص الوطني في احترام تام مع النص الدولي، أما حملها كشعارات فهو موضوع آخر.
المحور الثالث: التفاعل مع بعض الانتقادات الأخرى الموجهة لمشروع قانون المسطرة المدنية
انطلاقا من الوعي بأهمية العدالة الإجرائية، ودورها في توفير شروط المحاكمة العادلة، وتحقيق النجاعة القضائية، فقد حرص المشروع، خلافا لما يدعيه البعض، على أن يتضمن عددا كبيرا من المقتضيات الجديدة، التي ستساهم في ضمان الولوج الفعال والمنصف للعدالة، وستساعد على تجاوز كل الصعوبات القانونية والواقعية التي تحول دون بت القضاء في الدعاوى المدنية داخل أجل معقول، كما حرص على تضمينه مجموعة من المقتضيات التي تقدم حلولا ناجعة لتسريع وثيرة تنفيذ الأحكام الصادرة عنها، واستيفاء حقوق المتقاضين بكيفية سريعة، وذلك بالاستفادة من التقدم الذي تشهده بلادنا في المجال الرقمي، واستعمال كل التطبيقات التي تساعد على تبسيط الإجراءات القانونية في جميع مراحل الدعوى وتيسير سبل التقاضي، مع حرص المشرع أيضا على أن تكون كل هذه المقتضيات متلائمة مع الحقوق التي يكفلها الدستور، ومع الالتزامات الدولية للملكة المغربية.
ولابأس للتذكير في كل حين بالمسار الذي قطعه هذا المشروع والذي لم يكن سرا من أسرار الكون، بل ظل مشروع قانون يركب مسطرة المقاربة التشاركية مع كل الفاعلين في مجال العدالة من داخل وخارج البرلمان، من خلال تنظيم عدة لقاءات وندوات وطنية موثقة بشراكة مع القطاع الوزاري المعني، كما شهد مسار الإعداد، مناقشات موسعة شارك فيها عدد من الأساتذة الجامعيون، والبرلمانيون، والنقباء، والمحامين، والحقوقيين، والطلبة الباحثين والقضاة، ومختلف الأطر المنتمية للمهن القانونية والقضائية والجمعيات المهنية والنقابية المعنية، حيث شكلت هذه اللقاءات مناسبة هامة لتبادل الآراء بين مختلف الفاعلين، وتقديم كل الملاحظات البناءة.
وفضلا عن ذلك، فالكل يعلم أن مشروع القانون أحيل على المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ورئاسة النيابة العامة، وعدد من القطاعات الحكومية، والنقابات والجمعيات المهنية من أجل إبداء وجهات نظرها في مقتضياته، وهو ما مكن من إغناء المشروع بمجموعة من الملاحظات المقدمة من طرف هذه الجهات، والتي ساهمت في تجويد عدد من نصوصه، وذلك على خلاف كل الادعاءات المثارة وفق ما سنبينه فيما يلي:
1- بخصوص الادعاء بكون إلغاء قانون المسطرة المدنية الجاري سيجهز على ما يزيد نصف قرن من الاجتهاد القضائي واستقرار العمل القضائي.
إن مشروع قانون المسطرة المدنية ما هو إلا حلقة في إطار توجيه الحكومة للشروع في تفعيل مشروع إصلاح القضاء في ستة مجالات ذات أسبقية، ولا يخفى أن تفعيل الإصلاح المنشود على مستوى هذه المجالات لا يمكن أن يتحقق إلا بإقرار قانون جديد للمسطرة المدنية يتضمن نصوص تستجيب لتطلعات المتقاضين وانتظاراتهم لإقرار قانون إجرائي مدني قادر على مواكبة التحولات التي يشهدها العالم، ما تفرزه من إشكالات قانونية وواقعية.
وعلى خلاف الادعاء بكون مشروع قانون المسطرة المدنية سيجهز على ما يزيد عن نصف قرن من الاجتهاد القضائي، وسيؤثر على استقرار العمل القضائي، فقد عمد هذا المشروع إلى إقرار عدد من المبادئ التي استقر عليها العمل القضائي وتواترت في شأنها اجتهادات المجلس الأعلى سابقا – محكمة النقض حاليا -، كما تم اعتماد مجموعة من القواعد الإجرائية التي تراعي خصوصية الواقع المغربي وفق صياغة قانونية سلسة وواضحة تسهل فهم محتوى النصوص ومقاصد المشرع، وذلك بالمزاوجة بين ما يتطلبه الأمر من تدقيق وبلورة في الصياغة وتوضيح في المضمون، وبين ما تقتضيه النجاعة والفعالية القضائية التي تعتبر من أهم محاور الإصلاح.
وهكذا عمل المشروع على تكريس مجموعة من الاجتهادات القضائية، والتنصيص على ما استقر عليه الاجتهاد القضائي في عدد القضايا، من قبيل أن محكمة الطعن يمكن لها أن تتصدى للبت في القضية سواء بتت المحكمة المصدرة للحكم المطعون فيه، في الشكل أو الموضوع ، وأن المحامي هو صلة الوصل ما بين المحكمة والمتقاضي، وأن تبليغ الاجراءات القضائية للأطراف في مكتب محاميهم يعتبر تبليغا قانونيا، كما أنه فضلا عن ذلك، تخويل المحكمة المدنية إمكانية النظر في دعوى الزور الأصلية، وإذا صدر حكم في نزاع غير قابل للتجزئة فلا يقبل الطعن الا إذا وجه ضد جميع الأطراف كالحكم بقسمة التصفية…إلخ، وبالتالي فإنه على خلاف الادعاء المشار إليه، فإن إقرار مشروع قانون جديد للمسطرة المدنية سيساهم في تبني عدد من الاجتهادات القضائية المستقرة وجعلها قواعد قانونية نافذة، مما سيمكن من ترسيخ استقرار العمل القضائي وتبعا لذلك استقرار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
وعليه فإن الإبداع والاجتهاد القضائي لم يتوقف مع صدور قانون، بل سيتطور ويتخذ أبعادا أخرى ستساهم في تكريس العدالة، لأن القانون يملك روحا تتطور مع الإنسانية التي تضمن وجوده واستمراريته، وأن الاجتهاد القضائي مرهون بوجود البشرية وإعمال الذكاء الجماعي في مجال القانون، أما الاستكانة إلى ما أنتجه الماضي فقط فإن ذلك سيغتال مستقبل القانون، وسنركن إلى ما أنتجه السابقون فقط، ومن تم سيكون على اللاحقين فقط تكرار ما جاء به من قبلهم، وبالتالي لن نستفيد من الإنتاج الفكري الإنساني لغيرنا لبناء ترسانة قانونية تكون عمادا للحاضر والمستقبل، وأعتقد أنه من الناحية القانونية يجب أن نواجه المستقبل بالاستناد على الماضي باجتهاداته وإبداعاته وإنتاجه الفكري، وليس فقط الاستكانة إليه حتى لا يتجاوزنا الزمن فنسقط في التكرار والجمود القانوني.
2- بخصوص الادعاء بعدم تقديم المشروع لحلول ناجعة للتبليغ والتنفيذ
لقد تضمن المشروع مقتضيات جديدة تهم التبليغ، إذ نص على إمكانية اعتماد المعلومات المتوفرة بقاعدة المعطيات المتعلقة بالبطاقة الوطنية للتعريف الإلكترونية في حالة تعذر التبليغ، متى تبين أن المدعى عليه مجهول بالعنوان الوارد بالاستدعاء أو انتقل منه، مع اعتبار العنوان المنصوص عليه في البطاقة الوطنية للتعريف الإلكترونية هو العنوان المعتمد في جميع الإجراءات القضائية، وجعل عملية التبليغ اختصاصا أصليا للمفوض القضائي، مع إمكانية استعانة المحكمة بباقي المتدخلين في العملية من السلطات الادارية وموظفي كتابة الضبط، كما أنه خول للمحكمة إمكانية توظيف قاعدة البيانات المتعلقة بعناوين سكنى المتقاضين، فيما يتعلق بإجراءات التبليغ وسير الدعوى، المضمنة بالبطاقة الوطنية للتعريف الإلكترونية إذا تعذر التوصل القانوني، ومنح الأطراف في الدعوى الأحقية للحصول على الطيات المتعلقة بالاستدعاء من كتابة الضبط بعد توفر الدعوى على المستندات المثبتة لها، قصد السهر على تبليغها بواسطة مفوض قضائي، وفضلا عن ألغى مسطرة التبليغ بواسطة القيم بعد ثبوت عدم فعاليتها.
وقد جاء المشروع بمقتضيات هامة لتجاوز كل التحديات التي تواجه تنفيذ الأحكام وتعيق استيفاء حقوق المتقاضين داخل أجل معقول، حيث أحدث لأول مرة مؤسسة قاضي التنفيذ، وخول له اختصاصات كبيرة، ونظم بشكل دقيق المسطرة المتبعة أمامه، وكذا القواعد العامة المتعلقة بالإشراف على عملية التنفيذ ومراقبة سير إجراءاته كما منحه صلاحية البت في الصعوبات المادية والقانونية التي تعترض عملية التنفيذ.
وعلى خلاف كل الادعاءات، فقد تضمن المشروع مجموعة من التدابير التشريعية، لتأمين عمليات التبادل الالكتروني للإجراءات مع مختلف محاكم المملكة فيما بينها ومع باقي الفاعلين في الحقل القضائي، وذلك بإقرار مقتضيات قانونية تروم اعتماد التقاضي عن بعد من خلال منصة إلكترونية رسمية تعد لهذا الغرض، واعتماد حسابات إلكترونية مهنية في عمليات التواصل مع المحاكم، مع منح إمكانية استخدام التبليغ الإلكتروني للأطراف الراغبين في ذلك عبر عناوينهم الإلكترونية الرسمية التي تضمن بقاعدة المعطيات المركزية للتبليغ الإلكتروني الى جانب العديد من التدابير المتعلقة الرامية إلى وضع بنية تحتية معلوماتية متطورة وبرامج معلوماتية لإدارة القضايا بهدف تسريع البت وضمان الشفافية في معالجة القضايا.
كما عمل المشروع أيضا على إدماج وسائل التواصل الإلكتروني في الإجراءات القضائية المدنية وتوظيف التبادل الرقمي للمعطيات في تعامل المحاكم مع المحامين والخبراء والأطراف والإجراءات من خلال اعتماد منصة إلكترونية رسمية للتقاضي عن بعد، واعتماد الحساب الإلكتروني والبريد الإلكتروني والعنوان الإلكتروني والتوقيع الإلكتروني، بالإضافة إلى استخدام الوسائل الالكترونية في عمليات وإجراءات التبليغ والإشهار والبيع بالمزاد العلني.
3- بخصوص المنع من الحجز على ممتلكات الدولة والجماعات المحلية
إذا كان الهدف المتوخى من القضاء الإداري هو تحقيق غايات نبيلة مناطها حماية حقوق المواطنين من تعسفات الإدارة، فإن إقرار الحماية القانونية لأموال وممتلكاتها الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها وهيئاتها من الحجز وفق ما هو منصوص عليه في لمادة 502 من مشروع قانون المسطرة المدنية لا يقل أهمية عن ذلك، وذلك لاعتبارات موضوعية تجعل منها آلية قانونية تحول دون استنزاف موارد الدولة، و تساعدها على ضمان استمرارها في الوفاء بالتزاماتها الدستورية بضمان حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية…وغيرها من الحقوق الأساسية، والتي من شأن الاخلال بها حرمان عدد كبير من المواطنين من موارد مهمة يمكن استخدامها لتلبية احتياجاتهم اليومية، مثل أداء الأجور، و توفير الصحة العامة، والتعليم، والبنية التحتية و الأمن…، وبالتالي فإن التنصيص على عدم قابلية الحجز على أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها وهيئاتها للحجز، ليس فيه أي مس بحقوق المتقاضين أو تمييز، بالنظر إلى أن هذا المقتضى لا يمنع من تنفيذ الأحكام بباقي الطرق القانونية الأخرى، وضمان استيفاء حقوق المتقاضين بالشكل الذي لا يؤدي إلى عجز الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها وهيئاتها على الوفاء بالتزاماتها على النحو المذكور.
لقد استهلك هذا الموضوع حيزا كبيرا من النقاش حينما تم التنصيص عليه داخل القانون المالي، وتم تبرير ذلك بكونه ضمانا لاستمرارية المرفق العمومي التي هي إحدى العناصر الأساسية لضمان حسن سير المؤسسات، أي أنها في مصلحة الجميع، وأعتقد أننا لسنا الدولة الوحيدة التي تنص على هذا المقتضى، ذلك أن الدولة لها ميزانية معينة لا يمكن تخطيها حتى ولو ألغينا هذا المنع، ولكن: هل من المعقول أن ننفذ حكما بالحجز على سيارة الإسعاف أو شاحنة جمع النفايات وغيرها التي وضعت لخدمة المواطنين ومن أموال دافعي الضرائب؟ أم أن نضمن استمرارية المرفق العمومي الذي وضع لخدمة الكل وليس لأطراف الدعوى؟ إن الجواب يتطلب المزيد من النقاش والتفكير بشكل جلي لإيجاد حل عملي وتشريعي لهذا الإشكال المتداخل، فلن أخالفكم الرأي أنه على الدولة تنفيذ الأحكام الصادرة باسم جلالة الملك، طبعا في توازن مع ضمان استمرارية سير المرفق العمومي وضمان استمرارية خدمات المواطنين.
4- بخصوص السعي الى فرض الزامية المحامي في التقاضي:
إن المطالب الداعية إلى فرض إلزام جميع المتقاضين بتعيين محام في جميع القضايا للدفاع عنهم أمام القضاء، تتناقض مع كل المبادئ المتعلقة بحقوق الدفاع، وهي مطالب تمس جوهر الحق في المساعدة القضائية التي تقوم على ضمان تمكين كل الأشخاص من هذه المساعدة بالمجان دون إثقال كاهلهم بمصاريف رغم عدم توفرهم على الإمكانيات المالية اللازمة لتحمل أعباء تنصيب محام للدفاع عنهم، وهي بدون شك مطالب تتنافي مع حقوق الدفاع المنصوص عليه في الفصل 120 من الدستور، كما تتنافي أيضا مع الحق في مجانية التقاضي لمن لا يتوفر على موارد كافية للتقاضي، طبقا للفصل 121 من الدستور.
تلكم بعد المحاور التي قررت المساهمة العلمية في النقاش الدائر بخصوصها، مؤكدين أن هذه الدفوعات ليس دفاعا عن الوزير أو حتى عن وزارة العدل، بل هي دفاع عن شروط المحاكمة العادلة.